يعاني العراق من ازمات عديدة خانقة
تكاد تعصف بكل تجربة مابعد 2003، لذلك من المنطقي القول بان البلد ليس بحاجة الى
ازمات جديدة يمكن لها ان تسرع من سيناريو الانهيار، عبر السنوات الاخيرة برز بشكل
واضح مدى خطورة الانقسام المجتمعي على الجغرافيا الامنية للبلاد، وهو درس يفترض
بالحريصين على هذا الوطن استيعابه والعمل على عدم تكراره.
لا يمكن ان تتحقق تلك الغاية دون
التفكير جيداً باثر الملفات السياسية على كيفية استدامة الهدوء المجتمعي الحالي،
حيث بات الناس اكثر انشغالا بالحديث عن دور المؤسسات واعادة انتاج الدولة، في
مقابل تراجع خطاب الطوائف والاثنيات.
تعارض الرؤى بين الفرقاء حيال القضايا
المستجدة قد ينسف كل هذه الانجازات، هذا تحديدا ما تخبرنا به الخلافات الخاصة
بتفسير خطوة تسليم رافع العيساوي، وزير المالية السابق في حكومة المالكي
2010-2014، نفسه الى القضاء العراقي بتاريخ 16 حزيران 2020. يسعى هذا المقال الى
محاولة تفكيك خطاب الفاعلين السياسين في العراق حيال هذا الموضوع المهم.
تشير بعض القوى السياسية – وتحديدا
الشيعية منها – الى ان هنالك مخطط لاعادة الاخوان المسلمين الى العراق مجددا، تصور
يعيد الى الاذهان الحديث عن صراع الاقطاب الاسلامية حيال شكل الدولة واسلمتها
بطريقة قسرية ترى في الاخر عدوا لا يمكن الركون اليه، تصور يعيد الى الاذهان
الحديث عن فكرة تطييف السياسة في الفترة 2006-2007 وصولا الى الحرب الشيعية –
السنية الشاملة.
مع ذلك هناك العديد من المؤشرات التي
تدحض هذا الافتراض و تجعله غير فاعل عمليا في تفسير ما يجري، فالمشروع الاخواني – الذي قد توارى جغرافيا وشعبيا – قد
مني بهزيمة كبير في المنطقة وبات منبوذا عن بنية التحولات التي تجري فيها، كما ان
داعميه يمرون الان بازمات كثيرة تمنعهم من التوظيف السياسي الكبير لهذه الادوات في
ظل استقطابات سنية – سنية متعارضة في رؤيتها لدور ووظيفة الاخوان المسلمين في العراق
والمنطقة عموما.
الاستقرار النسبي الذي تتمتع به
الجغرافيا السنية في عراق ما بعد 2017 يشكل عاملا مضافا في عدم تعاطف البيئات
المحلية كثيرا مع فكرة اعادة احياء مشروع الاخوان في تلك النطاقات.
موازين القوى – التي تغيرت كثيرا بالضد
من مصالح الاسلام الاخواني في العراق – تشير الى صعوبة عودة دورهم بذات الثقل
والتاثير الذي كانت عليه موجة صعودهم في السنوات السابقة.
فرضية اخرى تؤكد بان هنالك مشروع
امريكي يقف وراء عودة العيساوي الى العراق، هذه الرؤية يتبناها ويتحدث عنها بشكل
صريح بعض من قيادات الحشد الشعبي، ومنهم الشيخ قيس الخزعلي، ويشير الحديث هنا
باطاره العام الى محاور اساسية تلمح لوجود خطة منظمة تهدف الى تفعيل الخطاب
الطائفي، تهديد السلم الاهلي، وضرب مصداقية المؤسسات العراقية.
في مقابل هذه الاتهامات - التي لا تخلو
كثير منها من الاشارة الى هواجس لدى الرأي العام - هنالك حديث عن وجود سياسات
مضادة لبعض القوى الشيعية الولائية تهدف من خلالها الى تعبئة الجمهور ضد اطراف
حكومية شيعية يبدو انها ستُتهم بكونها جزء من محور امريكي للاضرار بمصالح الشيعة.
كما تشير الى محاولة احتكار الحديث عن
المكون الشيعي بصيغة المدافع عن مستقبله ووجوده في ظل مشهد يرى في الاخرين مصادر
مؤامرة كبيرة وخطيرة، ضمنيا تشير الاتهامات الى فكرة المشروع الامريكي الى ان
مؤسسات الدولة العراقية ستكون في مرمى الاتهام بالعمالة الى المحور الامريكي في
حال كان قرارها بالضد من رغبات بعض القوى والاطراف الشيعية.
سيتوجب على الاطراف الاخرى التي تدفع
باتجاه تبني رؤية التسوية ان تعمل على تقديم الادلة التي تثبت ان سياق المحاكمة
سيكون مهنيا وليس سياسيا، سيكون ذلك مدخلا مهما لتطمين مخاوف المتشككين حيال ما
يجري الان في العراق، سيتحمل هذا الفريق عبأ كبيرا في محاولته لانتاج حائط صد بين
ماهو سياسي وماهو مجتمعي. وهي مهمة ليست باليسيرة.
يروج البعض لفكرة ان "عودة
العيساوي، التي ستمهد لعودة بقية الشخصيات المتهمة بالارهاب، تحمل بعدا عدائيا
للحشد الشعبي". ينطلق من يتبنى هذا الراي من مخاوف لها علاقة بالجغرافيا
الاجتماعية التي تمثلها الشخصيات المعنية.
اغلبهم يتسم بكونه يمثل امتداد لثقل
عشائري كبير ومؤثر في انتاج مشهد التفاعلات السياسية - المجتمعية، كما ان اغلبهم
ينتمي الى محافظة الانبار التي تتسم بكونها ذات ثقل جيوبولتيكي مؤثر في العراق.
تواجد الحشد الشعبي في امتدادت واسعة
في تلك المحافظة، وخاصة عند حدودها مع سوريا، يجعل البعض يفكر في ان هنالك رغبة ما
للبدء بعملية دفع المجتمع السني للمواجهة العسكرية مع الحشد الشعبي، على الارض
هنالك كثير من المبررات التي تقوض جدية هذا السيناريو.
العشائر في تلك النطاقات بات لها
ممثلين وحضور من نوع اخر في المشهد السياسي يميل الى اتباع سياسة التهدئة والعودة
التدريجية الى بنية الدولة العراقية بعيدا عن عقلية العنف والثأر الهوياتي التي
استغلها تنظيم القاعدة وداعش لاحقا.
هنالك منجزات تحققت في السنوات القليلة
الماضية لا يوجد عاقل في تلك الاجزاء مستعد للتضحية بها من اجل صراع غير متكافيء،
وترابط التشكيلات العسكرية – الرسمية في تلك المنطقة يجعل الحديث عن دور العيساوي
او غيره في عملية تخريبه اقرب الى الخيال، ولن ينفي كل ذلك الحاجة الى الاستماع
لاراء الناس تجاه الية تنظيم العلاقة بينهم وبين الحشد الشعبي، فهي السبيل لترسيخ
نوع من الثقة المهمة لتطمين مخافهم.
في بعض الاحيان يدور حديث من نوع اخر
"صراع الاقطاب السنية"، ويشير هذا الحديث الى ان عملية اعادة العيساوي
وبقية الشخصيات الخلافية الى المشهد من جديد تقف وراءها صراعات اخرى داخل البيت
السني، هنالك الان جناحان متعارضان فيما يتعلق بدور السنة وكيفية تفعيله في العمل
السياسي.
الجناح التقليدي، المتهم باعادة
العيساوي تمهيدا لاعطاءه دورا اكبر - رئاسة مجلس النواب مستقبلا - من اجل سحب
البساط من تحت اقدام القوى السنية الشابة في الانبار، يواجه تحدي ظهور منافس جديد
اثر بشكل كبير في رسم ملاحم الخارطة الانتخابية في المنطقة الغربية من العراق،
للوقوف بوجه هذا النوع من التفسيرات اكد رئيس مجلس النواب العراقي "السيد
محمد الحلبوسي" على انه مع المحاكمة العادلة للعيساوي، وهذا يعني ان مخاوف
الصراع السني - السني المستقبلي بسبب العيساوي امر مبالغ فيه، كما ان الحديث عن
الدور السياسي للعيساوي حتى اليوم مصدر تشكيك كبير، اذ لا توجد اي تاكيدات بانه
سيتسمر في هذا العمل او بان مجيئه جزء من صفقة لتقديمه كزعيم سني وظيفته الاساسية
مواجهة نفوذ الحلبوسي وفريقه السياسي.
من يتابع سياق التطورات الحالية وطبيعة
التصريحات الضمنية، لاولئك الذين يصنفون على انهم القادة الجدد في المشهد العراق،
بما فيهم الكورد، يستطيع ان يتوصل الى قناعة اخرى يتوقع ان يكون لها حضور اكبر في
التحليل خلال القادم من الزمن.
يدرك هؤلاء القادة بان تقبل المجتمع
الدولي للعراق، ولاحقا مساعدته في تخطي ازماته، مرهون بمدى قدرته على العودة
للاندماج في بنية قراراته وتوصيفاته الدولية، وابعاد اي طرف من المعادلات السياسية
المحلية يجعل اللاعب الدولي يبني تصورات مربكة عن العلاقة العراقية - الايرانية،
وهو امر دفع العراق الكثير من فاتورته خلال مراحل التحول الاستراتيجي الكبرى من
حياته، لذلك يبدو ان هنالك محاولة تاسيس لقواعد اللعبة من جديد بين الفرقاء.
الرعاية الدولية المشروطة يبدو هي
الاخرى راغبة في ان يكون لبغداد الدور السياسي المحوري في هذا الميدان، وعودة
العاصمة مجددا لممارسة رمزيتها السياسية والادارية، باعتبارها مركز تنوع سكاني
ومصدر جذب لكل جهات العراق، يشير الى ان تسويات اخرى كبرى يتم الاعداد لها في
مطابخ السياسة.
تسويات يبدو انها ستسهم في تراجع حدة
الخطابات المتطرفة وصولا الى مرحلة اعادة الاندماج في منظومة الدولة، خطاب يرى
ضرورة عزل المجتمع عن تداعيات الصراع السياسي.
كمتابعين نراهن كثيرا على جعل ذلك
منهجا وسلوكا جديدا في العمل السياسي يتوقف من خلاله الشركاء عن النظر الى المواطن
على انه بيدق في لعبة تصفية الحسابات و تحقيق المكاسب.
بالنهاية ستكون هنالك حاجة ماسة الى
التفكير بعزل الدوائر الثلاث التالية عن انتاج تفاعلات سلبية تضر بمستقبل الامن
والسلام الهش في العراق، الدائرة السياسية، الدائرة المجتمعية، الدائرة القضائية،
وقدرة الاخيرة على اثبات ان المحاكمات ستكون عادلة وليست سياسية هو تحد كبير ستسهم
نتائجه كثيرا في تحديد طبيعة التفاعلات التي ستتم بين بقية الدوائر.
السؤال الختامي في كل ذلك سيتعلق بمدى
قدرة القوى السياسية على تقبل قرار القضاء – تبرئة او ادانة – باعتباره قرارا
مهنيا يبنى على الادلة والاثباتات وليس الصفقات والتسويات السياسية.
الاصرار على اقحام القضاء في هذه
المساحة من الشبهات هو المنزلق الخطير الذي يتوجب على الجميع تجنب الوقوع فيه،
ونحن بحاجة الى ان نحول تحدي اللحظة الراهنة الى فرصة ثمينة يمكن من خلالها ان
نستعيد ثقة المجتمع بمرجعية الدولة وسلطتها القضائية.
الحديث السياسي عن قناعات مبكرة تتعلق
بمصير الرؤية القانوينة لقضية العيساوي يدفع باتجاه مغاير تماما لهذا المسار،
تصريحات يجب ايقافها لكونها تسهم في ارباك الثقة والعلاقة بين الجمهور والقضاء
لمصلحة المتاجرين بالسياسة.
735 عدد القراءات